فصل: مطلب فِي بَيَانِ الْمَمْدُوحِ مِنْ الْعُزْلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب فِي مَدْحِ الْخَلْوَةِ

وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ مَدْحِ الْخَلْوَةِ وَكَفِّ رَجُلٍ لِرَجُلٍ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ نَثْرًا وَنَظْمًا ‏.‏

قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَنِسْت بِوِحْدَتِي وَلَزِمْت بَيْتِي فَدَامَ الْأُنْسُ لِي وَنَمَا السُّرُورُ وَأَدَّبَنِي الزَّمَانُ فَلَا أُبَالِي هَجَرْت فَلَا أُزَارُ وَلَا أَزُورُ وَلَسْت بِسَائِلٍ مَا دُمْت حَيًّا أَسَارَ الْجَيْشُ أَمْ رَكِبَ الْأَمِيرُ وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ اُعْكُفْ عَلَى الْكُتُبِ وَادْرُسْ تُؤْتَى فَخَارَ النُّبُوَّةِ فَاَللَّهُ قَالَ لِيَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ غِذَاء وَقَالَ آخَرُ‏:‏ رَأَيْت الِانْقِبَاضَ أَجَلَّ شَيْءٍ وَأَدْعَى فِي الْأُمُورِ إلَى السَّلَامَةِ فَهَذَا الْخَلْقُ سَالِمْهُمْ وَدَعْهُمْ فَخُلْطَتُهُمْ تَقُودُ إلَى الْمَلَامَةِ وَلَا تَعْبَأْ بِشَيْءٍ غَيْرِ شَيْءٍ يَقُودُ إلَى خَلَاصِك فِي الْقِيَامَةِ وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْبَاقِي الْحَنْبَلِيُّ‏:‏ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٍ وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الْكُتُبِ فَقَالَ لَهُ إلَى مَتَى هَذَا‏؟‏ فَأَنْشَدَ فِي الْحَالِ‏:‏ إنْ صَحِبْنَا الْمُلُوكَ تَاهُوا وَعَقُّوا وَاسْتَخَفُّوا جَهْلًا بِحَقِّ الْجَلِيسِ أَوْ صَحِبْنَا التُّجَّارَ صِرْنَا إلَى الْبُؤْسِ وَأَشْغَلُونَا كَمَا هُمْ بِضَبْطِ الْفُلُوسِ فَلَزِمْنَا الْبُيُوتَ نَسْتَكْثِرُ الْخَيْرَ وَنُمْلِي مِنْ الْفَضْلِ بُطُونَ الطُّرُوسِ لَوْ تَرَكْنَا وَذَاكَ كُنَّا ظَفَرْنَا كُلَّ أَعْمَارِنَا بِعَلَقٍ نَفِيسِ غَيْرَ أَنَّ الزَّمَانَ بَثَّ بَنِيهِ فَهُمْ حَسَدُونَا عَلَى حَيَاةِ النُّفُوسِ وَمِنْ نَظْمِ الْفَقِيرِ عَلَى ظَهْرِ كِتَابِ الْمُلَحِ الْغَرَامِيَّةِ فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ فرح اللَّامِيَّةِ شِعْرٌ‏:‏ رَوِّحْ النَّفْسَ فِي مَعَانٍ رقيقة وَنِكَاتٍ مِنْ الْغَرَامِ رشيقه وَامْحُ عَنْ قَلْبِك الْهُمُومَ بِنَظْمِ كُلِّ مَنْ حَازَهُ أَثَارَ رحيقه وَاغْتَذِي بِالْفُنُونِ عَنْ كُلِّ لَهْوٍ يُغْتَدَى بِالنَّهْيِ لِغَيْرِ حقيقه وَاكْتَفِي بِالْبَيَانِ عَنْ ظِلِّ بَانٍ وَعَنْ الْغِيدِ بِالْعُلُومِ الدقيقة وَاصْحَبْ السَّفَرَ حَيْثُ كُنْت رَفِيقًا فَازَ مَنْ سَفَرُهُ يَكُونُ رفيقه فَهِيَ عِنْوَانُ عَقْلِ مَنْ يَصْحَبُهَا عُرْوَةٌ فِي الْمَعَادِ تُدْعَى وثيقه وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَفْضَلِ كُلِّ جَلِيسٍ ‏,‏ مُجَالَسَتُك لِكِتَابٍ أَنِيسٍ ‏.‏

وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

‏.‏ وَلَمَّا كَانَ لَا يَسْتَغْنِي كُلُّ إنْسَانٍ عَنْ مُخَالَطَةِ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ ‏,‏ إذْ الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ وَمُفْتَقِرٌ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِالْوَضْعِ ‏,‏ بَيَّنَ لَك النَّاظِمُ مَنْ تُخَالِطُ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْحَمِيَّةِ عَنْ التَّخْلِيطِ ‏,‏ وَاسْتِصْحَابِ الْيَقَظَةِ مِنْ التخبيط ‏,‏ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ التَّفْرِيطِ ‏.‏

فَقَالَ‏:‏

 مطلب فِي مُخَالَطَةِ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ

وَفِيهِ بَيَانُ مَعْنَى التَّوْفِيقِ وَخَالِطْ إذَا خَالَطْت كُلَّ مُوَفَّقٍ مِنْ غِذَاء أَهْلِ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ ‏(‏وَخَالِطْ‏)‏ أَيُّهَا الْأَخُ الْمُسْتَرْشِدُ وَالْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَنْجِدُ ‏(‏إذَا خَالَطْت‏)‏ أَحَدًا مِنْ أَبْنَاءِ زَمَانِك ‏,‏ وَعَاشَرْت شَخْصًا مِنْ إخْوَانِك وَأَخْدَانِك ‏,‏ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اسْتِدَامَةِ الْعُزْلَةِ ‏,‏ أَوْ احْتَجْت لِإِصْلَاحِ بَعْضِ أُمُورِ دِينِك عَلَى يَدِ إمَامٍ رَاسِخٍ رَحْلُهُ ‏(‏كُلَّ‏)‏ مَفْعُولُ خَالِطْ ‏(‏مُوَفَّقٍ‏)‏ لِطُرُقِ الْخَيْرَاتِ ‏,‏ مُهْتَدٍ لِسُبُلِ السَّعَادَاتِ ‏,‏ مُسَدَّدٍ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ ‏,‏ غَيْرِ مَخْذُولٍ وَلَا مُفْرِطٍ ‏,‏ وَلَا جَهُولٍ وَلَا مُخَلِّطٍ ‏,‏ وَالتَّوْفِيقُ مَصْدَرُ وَفَّقَ يُوَفِّقُ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ‏:‏ التَّوْفِيقُ إرَادَةُ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَبْدُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ مُرِيدًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ ‏,‏ وَيُبَغِّضُ إلَيْهِ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ ‏,‏ وَهَذَا مُجَرَّدُ فِعْلِهِ تَعَالَى وَالْعَبْدُ مَحَلُّهُ ‏.‏

قَالَ وَفَسَّرَتْ الْقَدَرِيَّةُ التَّوْفِيقَ بِأَنَّهُ خُلُقُ الطَّاعَةِ ‏,‏ وَالْخِذْلَانَ خُلُقُ الْمَعْصِيَةِ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ‏:‏ التَّوْفِيقُ خُلُقٌ لَطِيفٌ يَعْلَمُ الرَّبُّ تَعَالَى أَنَّ الْعَبْدَ يُؤْمِنُ عِنْدَهُ ‏,‏ وَالْخِذْلَانُ مَحْمُولٌ عَلَى امْتِنَاعِ اللُّطْفِ ‏.‏

حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي الْإِرْشَادِ ‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ غِذَاء فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ‏:‏ وَفَّقَ أَيْ سَهَّلَ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ ‏,‏ وَالْمُوَفِّقُ اسْمُ فَاعِلٍ هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ‏,‏ سُمِّيَ بِهِ ‏;‏ لِأَنَّهُ يُوَفِّقُ الْعِبَادَ أَيْ يُرْشِدُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ إلَى طَاعَتِهِ ‏,‏ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَفْقِ وَالْمُوَافَقَةِ وَهِيَ الْتِحَامٌ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ ‏.‏

وَقَالَ غِذَاء‏:‏ التَّوْفِيقُ مِنْ اللَّهِ خَلْقُ قُدْرَةِ الطَّاعَةِ وَتَسْهِيلُ سَبِيلِ الْخَيْرِ ‏,‏ وَعَكْسُهُ الْخِذْلَانُ ‏.‏

‏.‏

 مطلب مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ أَشْرَفُ الْمَقَامَاتِ

فَأَرْشَدَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَالَطَ فَلْتَكُنْ خُلْطَتُهُ لِمُوَفَّقٍ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِمَا فِيهِ سَعَادَتُهُ وَنَجَاتُهُ ‏,‏ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقُ ‏(‏مِنْ غِذَاء‏)‏ جَمْعُ عَالِمٍ وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَصَرَهُ لِضَرُورَةِ الْوَزْنِ ‏,‏ وَذَلِكَ لِأَجْلِ اسْتِفَادَتِهِ مَعْرِفَةَ الْأَحْكَامِ ‏,‏ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ‏,‏ وَإِصْلَاحِ دِينِهِ ‏,‏ وَرُسُوخِهِ وَتَمْكِينِهِ ‏(‏أَهْلِ التُّقَى‏)‏ صِفَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ كَاللَّازِمَةِ لِلْعُلَمَاءِ ‏(‏وَ‏)‏ أَهْلِ ‏(‏التَّعَبُّدِ‏)‏ وَالْخُضُوعِ ‏,‏ وَالذُّلِّ وَالْخُشُوعِ ‏,‏ وَرَفْعِ الْأَيْدِي وَسَفْحِ الدُّمُوعِ ‏,‏ بَيْنَ يَدَيْ عَالِمِ السِّرِّ وَالنَّجْوَى ‏,‏ وَكَاشِفِ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى ‏,‏ وَهَذِهِ مِنْ صِفَاتِ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِينَ عُلُومُهُمْ زَاخِرَةٌ ‏,‏ وَنُفُوسُهُمْ طَاهِرَةٌ ‏,‏ وَمَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ اخْتَارَهُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ عَلَى مَقَامِ الْمُلْكِ وَهُوَ مَقَامٌ عَظِيمٌ ‏,‏ وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ بِهِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ كَمَقَامِ التَّنْزِيلِ فِي قَوْلِهِ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ‏}‏ وَمَقَامِ الدَّعْوَةِ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ‏}‏ وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ‏}‏ وَفِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ فِي قَوْلِهِ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏}‏ وَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يَوْمَ الْفَتْحِ فَارْتَعَدَ فَقَالَ لَهُ ‏"‏ هَوِّنْ عَلَيْك إنِّي لَسْت بِمَلِكٍ إنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ‏"‏ ‏.‏

وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ‏,‏ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ جَلَسَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ مَهُولٌ ‏,‏ فَقَالَ جِبْرِيلُ إنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمَ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ ‏,‏ فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنَا إلَيْك رَبُّك أَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُك أَمْ عَبْدًا رَسُولًا‏؟‏ قَالَ جِبْرِيلُ‏:‏ فَتَوَاضَعْ لِرَبِّك يَا مُحَمَّدُ ‏,‏ قَالَ بَلْ عَبْدًا رَسُولًا ‏"‏ وَمِنْ مَرَاسِيلِ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ ‏,‏ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ ‏,‏ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ ‏"‏ خَرَّجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ ‏.‏

‏.‏

وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ غِذَاء عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ أَتَانِي مَلَكٌ فَقَالَ إنَّ رَبَّك يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ وَيَقُولُ لَك‏:‏ إنْ شِئْت نَبِيًّا مَلِكًا ‏,‏ وَإِنْ شِئْت نَبِيًّا عَبْدًا فَأَشَارَ إلَيَّ جِبْرِيلَ عليه السلام ضَعْ نَفْسَك فَقُلْت نَبِيًّا عَبْدًا ‏.‏

قَالَتْ فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا وَيَقُولُ‏:‏ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ ‏"‏ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَرَوَاهُ غِذَاء عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مَا وَلَفْظُهُ ‏"‏ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ إلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ ‏,‏ فَقَالَ الْمَلَكُ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُخَيِّرُك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا ‏,‏ فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ ‏,‏ فَأَشَارَ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ ‏,‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا بَلْ أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا ‏.‏

فَمَا أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا ‏"‏ ‏.‏

‏.‏

وَمِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ قَالَ ‏"‏ بَلَغَنَا أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَلَكٌ لَمْ يَأْتِهِ قَبْلَهَا وَمَعَهُ جِبْرِيلُ ‏,‏ فَقَالَ الْمَلَكُ وَجِبْرِيلُ صَامِتٌ إنَّ رَبَّك يُخَيِّرُك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا ‏,‏ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَأْمِرِ ‏,‏ فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ ‏,‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا ‏"‏ قَالَ الزُّهْرِيُّ‏:‏ فَزَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْكُلْ مُنْذُ قَالَهَا مُتَّكِئًا ‏.‏

وَتَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي آدَابِ الْأَكْلِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ غِذَاء ‏.‏

وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَقَوْلِهَا لَهُ ‏"‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَكَلْت وَأَنْتَ مُتَّكِئٌ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْك ‏,‏ فَأَصْغَى بِجَبْهَتِهِ إلَى الْأَرْضِ حَتَّى كَادَ يَمَسُّ بِهَا الْأَرْضَ وَقَالَ بَلْ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَنَا جَالِسٌ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ ‏"‏ ‏.‏

قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ‏:‏ مَنْ ادَّعَى الْعُبُودِيَّةَ وَلَهُ مُرَادٌ بَاقٍ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ ‏,‏ إنَّمَا تَصِحُّ الْعُبُودِيَّةُ لِمَنْ أَفْنَى مُرَادَاتِهِ وَقَامَ بِمُرَادِ سَيِّدِهِ يَكُونُ اسْمُهُ مَا يُسَمَّى بِهِ وَنَعْتُهُ مَا حُلِّيَ بِهِ ‏,‏ إذَا دُعِيَ بِاسْمِهِ أَجَابَ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ ‏,‏ فَلَا اسْمَ لَهُ وَلَا رَسْمَ وَلَا يُجِيبُ إلَّا لِمَنْ يَدْعُوهُ بِعُبُودِيَّةِ سَيِّدِهِ ‏,‏ وَأَنْشَأَ يَقُولُ‏:‏ يَا عَمْرُو ثَارِي عِنْدَ زَهْرَاءَ يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا فَإِنَّهُ أَصْدَقُ أَسْمَائِي وَقَالَ آخَرُ‏:‏ مَالِي وَلِلْفَقْرِ إلَى عَاجِزٍ مِثْلِي لَا يَمْلِكُ إغْنَائِي وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فَقْرِي إلَى مَالِكٍ إسْعَادِي وَإِشْقَائِي أَتِيهُ عَجَبًا بِانْتِمَائِي إلَى أَبْوَابِهِ إذْ قُلْت مولائي لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهُ فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي وَمَا أَحْسَنُ قَوْلِ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي مِثْلِ هَذَا‏:‏ وَمِمَّا زَادَنِي عَجَبًا وَتِيهًا وَكِدْت بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِك يَا عِبَادِي وَأَنْ صَيَّرْت أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا ‏(‏تَنْبِيهَانِ‏:‏ الْأَوَّلُ‏)‏ رَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ الْقَصِيدَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّسَدُّدِ بَدَلَ التَّعَبُّدِ ‏,‏ وَمَعْنَاهُ كَمَا مَرَّ سَابِقًا التَّقْوِيمُ وَالْإِصَابَةُ ‏,‏ يُقَالُ سَدَّدَهُ تَسْدِيدًا قَوَّمَهُ وَوَفَّقَهُ لِلسَّدَادِ أَيْ الصَّوَابِ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ‏,‏ وَأَمَّا سِدَادُ الْقَارُورَةِ وَالثَّغْرِ فَبِالْكَسْرِ فَقَطْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏.‏

 مطلب فِي بَيَانِ الْمَمْدُوحِ مِنْ الْعُزْلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ

‏(‏الثَّانِي‏)‏‏:‏ الْمَمْدُوحُ مِنْ الْعُزْلَةِ اعْتِزَالُ مَا يُؤْذِي ‏,‏ وَمِنْ الْخُلْطَةِ مَا يَنْفَعُ ‏,‏ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَقْطَعَ الْعُزْلَةُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْجَمَاعَاتِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالِاحْتِرَافِ لِلْعَائِلَةِ ‏.‏

وَقَدْ قَالَ شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ‏:‏ النَّاسُ ثَلَاثَةٌ‏:‏ رَجُلٌ تُعَلِّمُهُ فَيَقْبَلُ مِنْك ‏,‏ وَرَجُلٌ تَتَعَلَّمُ مِنْهُ ‏,‏ وَاهْرُبْ مِنْ الثَّالِثِ ‏.‏

‏.‏ وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ‏:‏ أَقْلِلْ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ أَدْهَمَ‏:‏ لَا تَتَعَرَّفْ إلَى مَنْ لَا تَعْرِفْ ‏,‏ وَأَنْكِرْ مَنْ تَعْرِفُ ‏.‏

وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ‏:‏ إنِّي نَظَرْت إلَى الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ نَظَرًا كَفَانِي فَعَرَفْته وَعَرَفْتهمْ وَعَرَفْت عِزِّي مِنْ هَوَانِي فَحَمَلْت نَفْسِي بِالْقَنَاعَةِ عَنْهُمْ وَعَنْ الزَّمَانِ وَتَرَكْتهَا بِعَفَافِهَا وَالزُّهْدُ فِي أَعْلَى مَكَانِي فَلِذَاكَ أَجْتَنِبُ الصَّدِيقَ فَلَا أَرَاهُ وَلَا يَرَانِي فَتَعَجَّبُوا لَمُغَالِبٍ وَهَبَ الْأَقَاصِي للأداني وَانْسَلَّ مِنْ بَيْنِ الزِّحَامِ فَمَا لَهُ فِي الْخَلْقِ ثَانِي ‏.‏

 مطلب النَّاسُ فِي الْعُزْلَةِ وَالِاخْتِلَاطِ عَلَى ضَرْبَيْنِ

قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْعُزْلَةِ وَالِاخْتِلَاطِ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَرْبَيْنِ‏:‏ عَالِمٌ وَعَابِدٌ ‏,‏ فَالْعَالِمُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ نَفْعِ النَّاسِ ‏,‏ فَإِنَّهُ خَلْفُ الْأَنْبِيَاءِ ‏,‏ وَلْيُعْلَمْ أَنَّ هِدَايَةَ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ ‏.‏

‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه ‏"‏ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ‏"‏ ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَمَتَى جَاءَ الشَّيْطَانُ فَحَسَّنَ لِلْعَالِمِ الِانْقِطَاعَ عَنْ الْخَلْقِ جُمْلَةً فَذَاكَ خَدِيعَةٌ مِنْهُ ‏,‏ بَلْ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَعْتَزِلَ شَرَّ مَا يُؤْذِي وَيَبْرُزُ لِمَنْ يَسْتَفِيدُ ‏,‏ فَظُهُورُهُ أَفْضَلُ مِنْ اخْتِفَائِهِ ‏.‏

وَالْعَابِدُ إنْ كَانَ عَابِدًا لَا يُنَافَسُ فِي هَذَا ‏,‏ فَإِنَّ مِنْ الْقَوْمِ مِنْ شَغَلَتْهُ الْعِبَادَةُ ‏,‏ كَمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ رَأَى رَجُلًا مُتَعَبِّدًا فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا مَنَعَك مِنْ مُجَالَسَةِ النَّاسِ‏؟‏ فَقَالَ مَا أَشْغَلَنِي عَنْ النَّاسِ ‏.‏

قَالَ فَمَا مَنَعَك أَنْ تَأْتِيَ الْحَسَنَ‏؟‏ قَالَ مَا أَشْغَلَنِي عَنْ الْحَسَنِ ‏.‏

قَالَ فَمَا الَّذِي أَشْغَلَك‏؟‏ قَالَ إنِّي أُمْسِي وَأُصْبِحُ بَيْنَ ذَنْبٍ وَنِعْمَةٍ فَرَأَيْت أَنْ أُشْغِلَ نَفْسِي بِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلذَّنْبِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى النِّعْمَةِ ‏,‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَنْتَ عِنْدِي أَفْقَهُ مِنْ الْحَسَنِ ‏.‏

وَمِنْ الْقَوْمِ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ مَحَبَّةُ الْحَيِّ الْقَيُّومِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ أُنْسٌ وَلَا طِيبُ عَيْشٍ إلَّا بِانْفِرَادِهِ بِرَبِّهِ ‏,‏ فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ عُزْلَتُهُمْ أَصْلَحُ لَهُمْ ‏.‏

نَعَمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْغَلَهُمْ الْعُزْلَةُ عَنْ الْجَمَاعَاتِ وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ ‏,‏ فَإِنْ مَنَعَتْهُمْ كَانَتْ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ ‏.‏

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْعُزْلَةُ حَمِيَّةٌ وَسُلَّمٌ لِلسَّلَامَةِ ‏,‏ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ لِيُعْبَدَ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ‏.‏

وَلِلَّهِ دَرُّ غِذَاء حَيْثُ يَقُولُ‏:‏ لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيْئًا سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيلَ وَقَالَ فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إلَّا لِأَخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إصْلَاحِ حَالِ وَقَالَ الْحَافِظُ غِذَاء‏:‏ إنِّي عَزَمْت وَمَا عَزْمِي بِمُنْجَزِمٍ مَا لَمْ تُسَاعِدْهُ أَلْطَافٌ مِنْ الْبَارِي أَنْ لَا أُصَاحِبَ إلَّا مَنْ خبرتهم دَهْرًا مَدِيدًا وَأَزْمَانًا بِأَسْفَارِ وَلَا أُجَالِسُ إلَّا عَالِمًا فَطِنًا أَوْ صَالِحًا أَوْ صَدِيقًا لَا بِإِكْثَارِ وَلَا أُسَائِلُ شَخْصًا حَاجَةً أَبَدًا إلَّا اسْتِعَارَةَ أَجْزَاءٍ وَأَسْفَارِ وَلَسْت أُحْدِثُ فِعْلًا غَيْرَ مُفْتَرَضٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَلَمْ يَدْخُلْ بِإِنْكَارِ مَا لَمْ أَقُمْ مُسْتَخِيرَ اللَّهِ مُتَّكِلًا وَتَابِعًا مَا أَتَى فِيهَا بِآثَارِ فَالْعَاقِلُ إنَّمَا يُخَالِطُ الْأَفَاضِلَ وَالْأَمَاثِلَ مِنْ أَهْلِ التَّعَبُّدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّسَدُّدِ وَالْحِلْمِ ‏.‏

فَإِذَا كُنْت وَلَا بُدَّ مُخَالِطًا فَعَلَيْك بِمُخَالَطَةِ الْعَالِمِ النَّاصِحِ الَّذِي‏:‏ يُفِيدُك مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاك عَنْ هَوًى فَصَاحِبْهُ تُهْدَى مِنْ هُدَاهُ وترشد ‏(‏يُفِيدُك مِنْ عِلْمٍ‏)‏ عِنْدَهُ ‏(‏وَيَنْهَاك عَنْ‏)‏ مُتَابَعَةِ ‏(‏هَوًى‏)‏ وَمُلَابَسَتِهِ فَإِنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ ‏.‏

ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِمُخَالَطَةِ مَنْ هُوَ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ ‏(‏فَصَاحِبْهُ‏)‏ وَلَازِمْهُ ‏(‏تُهْدَى‏)‏ بِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِك لَهُ ‏(‏مِنْ هُدَاهُ‏)‏ وَتَنْتَفِعُ بِتَقْوَاهُ ‏(‏وَتُرْشَدْ‏)‏ بِفَتْوَاهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالطَّرِيقَةِ الْوَاضِحَةِ ‏,‏ وَتَتْرُكُ الْغَيَّ وَالضَّلَالَ وَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ الْفَاضِحَةِ ‏.‏

فَصُحْبَةُ مِثْلِ هَذَا غُنْمٌ ‏,‏ وَالْبُعْدُ عَنْهُ غُرْمٌ ‏,‏ فَإِنَّك تَهْتَدِي بِهَدْيِهِ الْمُقَرَّبِ ‏,‏ وَتَشْدُو بِشَدْوِهِ الْمُطْرِبِ ‏.‏

وَقَدْ قَالَ غِذَاء‏:‏ الصَّاحِبُ لِلصَّاحِبِ كَالرُّقْعَةِ فِي الثَّوْبِ إذَا لَمْ تَكُنْ مِثْلَهُ شَانَتْهُ وَقِيلَ لِابْنِ السِّمَاكِ‏:‏ أَيُّ الْإِخْوَانِ أَحَقُّ بِإِبْقَاءِ الْمَوَدَّةِ‏؟‏ قَالَ الْوَافِرُ دِينُهُ ‏,‏ الْوَافِي عَقْلُهُ ‏,‏ الَّذِي لَا يَمَلُّك عَلَى الْقُرْبِ ‏,‏ وَلَا يَنْسَاك عَلَى الْبُعْدِ ‏,‏ إنْ دَنَوْت مِنْهُ دَانَاك ‏.‏

وَإِنْ بَعُدْت عَنْهُ رَاعَاك ‏,‏ وَإِنْ استعضدته عَضَّدَك ‏,‏ وَإِنْ احْتَجْت إلَيْهِ رَفَدَك ‏,‏ وَتَكْفِي مَوَدَّةُ فِعْلِهِ ‏,‏ أَكْثَرُ مِنْ مَوَدَّةِ قَوْلِهِ ‏.‏

وَأَنْشَدُوا ‏,‏ وَهِيَ مِمَّا يُنْسَبُ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي الله عنه‏:‏ إنَّ أَخَاك الصِّدْقَ مَنْ كَانَ مَعَك وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَك وَمَنْ إذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَّعَك شَتَّتْ فِيك شَمْلَهُ لِيَجْمَعَك وَقِيلَ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ‏:‏ أَيِّ إخْوَانِك أَحَبُّ إلَيْك‏؟‏ قَالَ‏:‏ الَّذِي يَسُدُّ خُلَّتِي ‏,‏ وَيَغْفِرُ زَلَّتِي ‏,‏ وَيَقْبَلُ عَثْرَتِي ‏.‏

‏.‏

 مطلب فِي مُجَانَبَةِ الْهَمَّازِ وَالْبَذِيِّ

وَأَنَّ الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ إنْ قُمْت عَنْهُ وَالْبَذِيَّ فَإِنَّ الْمَرْءَ بِالْمَرْءِ يَقْتَدِي ‏(‏وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ‏)‏ أَيْ احْذَرْهُ وَابْعُدْ عَنْهُ وَلَا تُصَاحِبْهُ فَإِنَّهُ يَهْمِزُك ‏(‏إنْ قُمْت عَنْهُ‏)‏ أَيْ مِنْ عِنْدِهِ ‏,‏ فَمَتَى غِبْت عَنْهُ هَمَزَك ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ الْهَمْزُ الْغَمْزُ وَالضَّغْطُ وَالنَّخْسُ وَالدَّفْعُ وَالضَّرْبُ وَالْعَضُّ وَالْكَسْرُ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَفِي النِّهَايَةِ‏:‏ وَالْهَمْزُ أَيْضًا الْغَيْبَةُ وَالْوَقِيعَةُ فِي النَّاسِ وَذِكْرُ عُيُوبِهِمْ ‏,‏ وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ هُنَا ‏.‏

وَقَدْ هَمَزَ يَهْمِزُ فَهُوَ هَمَّازٌ وَهُمَزَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ ‏(‏وَ‏)‏ إيَّاكَ و ‏(‏الْبَذِيَّ‏)‏ أَيْ الْفَاحِشَ فِي مَقَالَتِهِ ‏,‏ الْمُتَمَادِي فِي رَذَالَتِهِ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ الْبَذِيُّ الرَّجُلُ الْفَاحِشُ وَالْأُنْثَى بِالْهَاءِ يَعْنِي بَذِيَّةً ‏,‏ وَقَدْ بَذُوَ بَذَاءً وَبَذَاءَةً ‏,‏ وَبَذَوْت عَلَيْهِمْ وأبذيتهم مِنْ الْبَذَاءِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْقَبِيحُ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَقَالَ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ‏:‏ قَوْلُهُ كَانَتْ تَبْذُو عَلَى أَهْلِهَا أَيْ تُفْحِشُ فِي الْقَوْلِ بذو يَبْذُو بَذْوًا ‏.‏

كَذَا قَيَّدَهُ غِذَاء ‏.‏

وَقَالَ غِذَاء فِيمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ غِذَاء عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ‏:‏ كَانَتْ بِذَاءً بِكَسْرِ الْبَاءِ ومباذاة وَبَذَاءَةً فَهُوَ بَذِيءٌ وَبَذِيٌّ أَيْ مَهْمُوزٌ أَوْ غَيْرُ مَهْمُوزٍ ‏.‏

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ ‏,‏ وَإِنَّ اللَّهَ يَبْغُضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ ‏"‏ ‏.‏

قَالَ غِذَاء‏:‏ الْبَذِيءُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَمْدُودًا هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْفُحْشِ وَرَدِيءِ الْكَلَامِ انْتَهَى ‏.‏

فَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا أَنَّهُ مَمْدُودٌ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ يُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ كَمَا فِي الْمَطَالِعِ ‏.‏

وَاقْتَصَرَ فِي الْقَامُوسِ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُورٌ فَقَالَ‏:‏ الْبَذِيُّ كَرَضِيِّ الْفَاحِشُ ‏.‏

‏.‏

وَإِنَّمَا نَهَاك النَّاظِمُ رحمه الله تعالى عَنْ مُصَاحَبَةِ مِثْلِ الْهَمَّازِ وَالْبَذِيِّ لِئَلَّا تَقْتَدِيَ بِهِمَا وَتَسْرِقَ طَبِيعَتَك مِنْ طَبِيعَتِهِمَا ‏(‏فَإِنَّ الْمَرْءَ‏)‏ وَإِنْ تَحَرَّزَ مَهْمَا أَمْكَنَهُ وَلَوْ صَالِحًا إذَا أَلَمَّ ‏(‏بِالْمَرْءِ‏)‏ الْبَذِيِّ وَالْقَتَّاتِ وَالْهَمَّازِ ‏(‏يَقْتَدِي‏)‏ بِهِ فِي سِيرَتِهِ وَتَسْرِقُ طَبِيعَتَهُ مِنْ قُبْحِ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ سَرِيرَتِهِ ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ ‏"‏ يُحْشَرُ الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ ‏"‏ وَلَفْظُ تَبْصِرَةِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ ‏"‏ الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي كَلَامِ أَرِسْطُو طاليس‏:‏ الْأَشْكَالُ لَاحِقَةٌ بِأَشْكَالِهَا كَمَا أَنَّ الْأَضْدَادَ مُبَايِنَةٌ لِأَضْدَادِهَا ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ عَنْ قَدْرِ الْجَاهِلِ رَفَعَ الْجَاهِلُ قَدْرَهُ عَلَيْهِ ‏.‏

وَقَالَ الشَّاعِرُ‏:‏ فَمَا يَنْفَعُ الْجَرْبَاءَ قُرْبُ صَحِيحَةٍ إلَيْهَا وَلَكِنَّ الصَّحِيحَةَ تَجْرَبُ فَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ وَإِنْ كُنْت تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَصْعَبُ وَقَالَ آخَرُ عَلَى وَزَانِهِمَا وَأَحْسَنَ‏:‏ فَصَاحِبْ تَقِيًّا عَالِمًا تَنْتَفِعْ بِهِ فَصُحْبَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ وَإِيَّاكَ وَالْفُسَّاقَ لَا تصحبنهم فَقُرْبُهُمْ يُعْدِي وَهَذَا مُجَرَّبُ فَإِنَّا رَأَيْنَا الْمَرْءَ يَسْرِقُ طَبْعَهُ مِنْ الْإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ لِلنَّاسِ أَغْلَبُ كَمَا قِيلَ طِينٌ لَاصِقٌ أَوْ مُؤَثِّرُ كَذَا دُودٌ مَرَجَ خُضْرَةً مِنْهُ يَكْسِبُ وَجَانِبْ ذَوِي الْأَوْزَارِ لَا تقربنهم فَقُرْبُهُمْ يُرْدِي وَلِلْعِرْضِ يَسْلُبُ وَقَالَ آخَرُ‏:‏ عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَإِنَّ الْمُقَارِنَ لِلْمُقَارِنِ يُنْسَبُ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ‏"‏ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صِحَاحٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا ‏.‏

‏.‏

ثُمَّ نَهَى النَّاظِمُ عَنْ صُحْبَةِ الْأَحْمَقِ فَقَالَ‏:‏

 مطلب فِي النَّهْيِ عَنْ مُصَاحَبَةِ الْحَمْقَى وَذَوِي الْجَهْلِ

وَلَا تَصْحَبْ الْحَمْقَى فَذُو الْجَهْلِ إنْ يَرُمْ صَلَاحًا لِأَمْرٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ يفسد ‏(‏وَلَا تَصْحَبْ‏)‏ أَيْ لَا تُعَاشِرْ ‏,‏ يُقَالُ صَحِبَهُ كسمعه صَحَابَةً وَيُكْسَرُ ‏,‏ وَصَحِبَهُ عَاشَرَهُ وَاسْتَصْحَبَهُ دَعَاهُ إلَى الصُّحْبَةِ وَلَازِمْهُ ‏,‏ فَنَهَاك النَّاظِمُ أَنْ تَصْحَبَ ‏(‏الْحَمْقَى‏)‏ قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ حمق غِذَاء وَغَنِمَ حُمْقًا بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ وَحَمَاقَةً وَانْحَمَقَ وَاسْتَحْمَقَ فَهُوَ أَحْمَقُ قَلِيلُ الْعَقْلِ ‏,‏ وَقَوْمٌ وَنِسْوَةٌ حُمَاقٌ وحمق بِضَمَّتَيْنِ وَكَسَكْرَى وَسُكَارَى وَيُضَمُّ ‏.‏

وَفِي الْمَطَالِعِ فِي قَوْلِهِ أَرَأَيْت إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ أَيْ فَعَلَ فِعْلَ الْحَمْقَى ‏.‏

وَالْأُحْمُوقَةُ الْفِعْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ فِعْلِ الْحُمْقِ ‏.‏

وَفِي الْقَامُوسِ فَعَلَ فِعْلَ الْحَمْقَى كاستحمق ‏.‏

وَقَالَ فِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ‏:‏ الْحُمْقُ ارْتِكَابُ الْخَطَأِ عَلَى بَصِيرَةٍ يَظُنُّهُ صَوَابًا ‏.‏

وَقِيلَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُبْحِهِ ‏.‏

وَقِيلَ اسْتِحْسَانُ مَا تَسْتَقْبِحُهُ الْعُقَلَاءُ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

ثُمَّ بَيَّنَ النَّاظِمُ رحمه الله عِلَّةَ تَرْكِ مُصَاحَبَتِهِ بِقَوْلِهِ ‏(‏فَذُو‏)‏ أَيْ صَاحِبُ ‏(‏الْجَهْلِ‏)‏ ضِدُّ الْعِلْمِ ‏(‏إنْ يَرُمْ‏)‏ أَيْ يَطْلُبْ وَهُوَ مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ إنْ وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ذِي الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ الْأَحْمَقُ ‏(‏صَلَاحًا لِأَمْرٍ‏)‏ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي أَفْسَدَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ فَسَدَتْ بِنَفْسِهَا ‏(‏يَا أَخَا‏)‏ يَا صَاحِبَ ‏(‏الْحَزْمِ‏)‏ وَهُوَ ضَبْطُ الْأَمْرِ وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالثِّقَةِ كَالْحَزَامَةِ والحزومة ‏,‏ يُقَالُ حَزُمَ غِذَاء فَهُوَ حَازِمٌ وَحَزِيمٌ وَجَمْعُهُ حزمة وَحُزَمَاءُ ‏(‏يفسد‏)‏ مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ وَحُرِّك بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَّةِ ‏.‏

وَأَشَارَ بِهَذَا إلَى مَا رَوَاهُ الدينوري فِي الْمُجَالَسَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ لَا تُوَاخِ الْفَاجِرَ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَك فِعْلَهُ وَيُحِبُّ لَوْ أَنَّك مِثْلُهُ ‏,‏ وَمَدْخَلُهُ عَلَيْك وَمَخْرَجُك مِنْ عِنْدِهِ شَيْنٌ وَعَارٌ ‏,‏ وَلَا الْأَحْمَقَ فَإِنَّهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ لَك وَلَا يَنْفَعُك ‏,‏ وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْفَعَك فَضَرَّك ‏,‏ فَسُكُوتُهُ خَيْرٌ مِنْ نُطْقِهِ ‏,‏ وَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ ‏,‏ وَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ ‏,‏ وَلَا الْكَذَّابَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُك مَعَهُ عِشْرَةٌ ‏,‏ يَنْقُلُ حَدِيثَك وَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ إلَيْك ‏,‏ وَإِنْ تَحَدَّثَ بِالصِّدْقِ لَا يُصَدَّقُ ‏.‏

وَقِيلَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ مَنْ اصْطَنَعَ مَعْرُوفًا إلَى أَحْمَقَ فَهِيَ خَطِيئَةٌ مَكْتُوبَةٌ عَلَيْهِ ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ صَارِمْ الْأَحْمَقَ فَلَيْسَ لَهُ خَيْرٌ مِنْ الْهِجْرَانِ ‏.‏

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ‏:‏ هِجْرَانُ الْأَحْمَقِ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ فِي قَافِيَتِهِ‏:‏ وَلَأَنْ يُعَادِيَ عَاقِلًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ اتَّقِ الْأَحْمَقَ لَا تَصْحَبْهُ إنَّمَا الْأَحْمَقُ كَالثَّوْبِ الْخَلَقِ فَهُوَ إنْ رَقَعْته مِنْ جَانِبٍ عَادَ مِنْ هَوْنٍ سَرِيعًا فَانْخَرَقَ فَلَا يَسُوغُ لَك أَيُّهَا الْعَاقِلُ الرَّشِيدُ ‏,‏ صُحْبَةُ مِثْلِ هَذَا الْأَحْمَقِ الْبَلِيدِ ‏,‏ فَإِنَّهُ يَسُوءُك بِحُمْقِهِ وتأنبه ‏,‏ وَلَا تَعْرِفُ رِضَاهُ مِنْ غَضَبِهِ ‏.‏

وَقَدْ أَلَّفَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كِتَابًا حَافِلًا فِي الْحَمْقَى وَالْمُغَفَّلِينَ ‏,‏ وَكِتَابًا فِي الْأَذْكِيَاءِ ‏,‏ وَهُمَا مِنْ أَلْطَفِ الْكُتُبِ وَأَغْزَرِهِمَا فَوَائِدُ ‏.‏

‏.‏

 مطلب فِي طَلَبِ الْأُخُوَّةِ وَالصَّدَاقَةِ شَرْعًا وَطَبْعًا

‏"‏ فَوَائِدُ ‏"‏ الْأُولَى فِي الْأُخُوَّةِ وَالصَّدَاقَةِ ‏,‏ وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا وَطَبْعًا ‏.‏

قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏ بِمَعْنَى قَوَّاك بِهِمْ ‏{‏وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ التَّأْلِيفُ بِالْجَمْعِ عَلَى مَا يُشَاكِلُ ‏,‏ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجِ وَهُمْ الْأَنْصَارُ رضي الله عنهم ‏,‏ وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ ‏,‏ وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْآيَاتِ ‏,‏ كَانُوا ذَوِي أَنَفَةٍ شَدِيدَةٍ ‏,‏ فَلَوْ لَطَمَ رَجُلٌ رَجُلًا لَقَاتَلَتْ عَنْهُ قَبِيلَتُهُ حَتَّى تُدْرِكَ ثَأْرَهُ ‏,‏ فَآلَ بِهِمْ الْإِسْلَامُ إلَى أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وَأَبَاهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏,‏ وَالْجَامِعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْإِسْلَامُ ‏,‏ فَقَدْ اكْتَسَبُوا بِهِ أُخُوَّةً أَصْلِيَّةً وَجَبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ حُقُوقٌ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ‏.‏

‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى شَيْئًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ‏"‏ ‏.‏

وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ‏,‏ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ‏"‏ ‏.‏

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحَقِّ الضَّيْفِ ‏.‏

وَأَمَّا حَقُّ الصُّحْبَةِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ صَحِبْت ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْهُمَا ‏,‏ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَخْدُمَهُ فَكَانَ يَخْدُمُنِي أَكْثَرَ ‏.‏

وَأَمَّا الصَّدَاقَةُ فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الْأُخُوَّةِ ‏,‏ وَالْأُخُوَّةُ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا ‏,‏ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْأُخُوَّةُ الصَّادِقَةُ إذَا حَصَلَ التَّشَاكُلُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ ‏.‏

‏.‏

 مطلب فِي الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ وَمَا وَرَدَ فِي ثَوَابِهَا

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ‏"‏ وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ ‏.‏

وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأُخُوَّةَ الْعَامَّةَ فِي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ‏}‏ فَهِيَ وَاقِعَةٌ بَيْنَهُمْ قَبْلَ عَقْدِهِ ‏,‏ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ الْأَمْرَ الْخَاصَّ ‏,‏ وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيَبْغُضَ فِي اللَّهِ ‏.‏

وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ‏:‏ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ‏:‏ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي ‏"‏ ‏.‏

وَعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الخولاني قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَتَيْت مَسْجِدَ أَهْلِ دِمَشْقَ وَإِذَا حَلْقَةٌ فِيهَا كُهُولٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا شَابٌّ فِيهِمْ أَكْحَلُ الْعَيْنِ بَرَّاقُ الثَّنَايَا كُلَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى الْفَتَى ‏,‏ فَقُلْت لِجَلِيسٍ لِي مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ‏,‏ فَجِئْت مِنْ الْعِشَاءِ فَلَمْ يَحْضُرْ ‏,‏ فَغَدَوْت مِنْ الْغَدِ فَلَمْ غِذَاء ‏,‏ فَرُحْت فَإِذَا أَنَا بِالشَّابِّ يُصَلِّي إلَى سَارِيَةٍ ‏,‏ فَرَكَعْت ‏,‏ ثُمَّ تَحَوَّلْت إلَيْهِ ‏,‏ قَالَ فَسَلَّمَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْت‏:‏ إنِّي أُحِبُّك فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏,‏ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ ‏.‏

قَالَ فَخَرَجْت حَتَّى لَقِيت غِذَاء بْنَ الصَّامِتِ فَذَكَرْت لَهُ حَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ‏,‏ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ‏:‏ حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ‏,‏ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ ‏,‏ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ‏,‏ وَالْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ ‏"‏ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّبْصِرَةِ ‏.‏

وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ ‏"‏ قُلْت لِمُعَاذٍ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّك لِغَيْرِ دُنْيَا أَرْجُو أَنْ أُصِيبَهَا مِنْك وَلَا قَرَابَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَك ‏,‏ قَالَ‏:‏ فَلِأَيِّ شَيْءٍ‏؟‏ قُلْت‏:‏ لِلَّهِ ‏,‏ فَجَذَبَ حَبْوَتِي ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَبْشِرْ إنْ كُنْت صَادِقًا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ يَغْبِطُهُمْ بِمَكَانِهِمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ ‏"‏ الْحَدِيثَ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ غِذَاء بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْثُرُ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏"‏ حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ‏,‏ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَوَاصِلِينَ فِيَّ ‏,‏ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ‏,‏ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ ‏"‏ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ فِي اللَّهِ خَالِصَةً لَا يَشُوبُهَا كَدَرٌ ‏,‏ وَإِذَا قَوِيَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقَلْبِ قَوِيَتْ مَحَبَّةُ أَوْلِيَائِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ ‏,‏ فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ مَنْ يُؤَاخِي مِمَّنْ يُحِبُّ ‏,‏ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ إلَّا مَنْ سَبَرَ عَقْلَهُ وَدِينَهُ ‏.‏

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ غِذَاء وَغَيْرُهُمْ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ ‏,‏ وَمَنَعَ لِلَّهِ ‏,‏ وَأَحَبَّ لِلَّهِ ‏,‏ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ ‏,‏ وَأَنْكَحَ لِلَّهِ ‏,‏ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ إيمَانَهُ ‏"‏ وَرَوَاهُ أَبُو غِذَاء مِنْ حَدِيثِ أَبِي غِذَاء بِنَحْوِهِ وَلَيْسَ فِيهِ وَأَنْكَحَ لِلَّهِ ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ غِذَاء رضي الله عنه ‏"‏ لَا تُصَاحِبْ إلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَك إلَّا تَقِيٌّ ‏"‏ ‏.‏

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ ثَلَاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ‏:‏ لَا يَجْعَلُ اللَّهُ مَنْ لَهُ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ كَمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ ‏.‏

وَأَسْهُمُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةٌ‏:‏ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ ‏.‏

وَلَا يَتَوَلَّى اللَّهُ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيه غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏;‏ وَلَا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ مَعَهُمْ ‏"‏ الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ ‏.‏

‏.‏

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّبْصِرَةِ‏:‏ كَانَ يُقَالُ‏:‏ اصْحَبْ مَنْ إذَا صَحِبْته زَانَك ‏.‏

وَإِذَا خَدَمْته صَانَك ‏;‏ وَإِذَا أَصَابَتْك خَصَاصَةٌ مَانَك ‏;‏ وَإِنْ رَأَى مِنْك حَسَنَةً سُرَّ بِهَا ‏;‏ وَإِنْ رَأَى مِنْك سَقْطَةً سَتَرَهَا ‏;‏ وَمَنْ إذَا قُلْت صَدَّقَ قَوْلَك ‏;‏ وَمَنْ هُوَ فَوْقَك فِي الدِّينِ ‏;‏ وَدُونَك فِي الدُّنْيَا ‏;‏ وَكُلُّ أَخٍ وَجَلِيسٍ وَصَاحِبٍ لَا تَسْتَفِيدُ مِنْهُ فِي دِينِك خَيْرًا فَانْبِذْ عَنْك صُحْبَتَهُ ‏;‏ فَإِذَا صَفَتْ الْمَحَبَّةُ وَخَلَصَتْ وَقَعَ الشَّوْقُ وَالتَّزَاوُرُ وَصَارَ بَذْلُ الْمَالِ أَحْقَرَ الْأَشْيَاءِ ‏.‏

‏.‏

وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَذْكُرُ الْأَخَ مِنْ إخْوَانِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ‏:‏ يَا طُولَهَا مِنْ لَيْلَةٍ ‏;‏ فَإِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ غَدَا إلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ ‏.‏

وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ إذَا مَشَى أَحَدُ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ إلَى الْآخَرِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَضَحِكَ إلَيْهِ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يتحات وَرَقُ الشَّجَرِ ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ مَعْرُوفٍ غِذَاء رحمه الله أَنَّهُ قَالَ‏:‏ امْشِ مِيلًا ‏;‏ صِلْ جَمَاعَةً ‏,‏ امْشِ مِيلَيْنِ ‏;‏ صَلِّ جُمْعَةً ‏;‏ امْشِ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ ‏;‏ شَيِّعْ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا ‏,‏ امْشِ سِتَّةَ أَمْيَالٍ ‏;‏ شَيِّعْ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‏;‏ امْشِ سَبْعَةَ أَمْيَالٍ بِصَدَقَةٍ مِنْ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ ‏;‏ امْشِ ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ ‏;‏ أَصْلِحْ بَيْنَ النَّاسِ ‏;‏ امْشِ تِسْعَةَ أَمْيَالٍ ‏;‏ صِلْ رَحِمًا وَقَرَابَةً ‏;‏ امْشِ عَشَرَةَ أَمْيَالٍ فِي حَاجَةِ عِيَالِك ‏;‏ امْشِ أَحَدَ عَشَرَ مِيلًا فِي مَعُونَةِ أَخِيك ‏;‏ امْشِ بَرِيدًا ‏;‏ وَالْبَرِيدُ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا ‏;‏ زُرْ أَخًا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏.‏

‏.‏

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ ‏"‏ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ ‏"‏ ‏.‏

 مطلب فِي بَيَانِ مَرَاتِبِ بَذْلِ الْمَالِ

أَدْوَنِهَا وَأَوْسَطِهَا وَأَعْلَاهَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ وَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ فَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ ‏;‏ أدونها الْمُسَاهَمَةُ ‏;‏ وَأَوْسَطُهَا الْمُسَاوَاةُ ‏;‏ وَأَعْلَاهَا تَقْدِيمُ الْأَخِ فِي الْمَالِ عَلَى النَّفْسِ ‏.‏

‏.‏

قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه مَا‏:‏ لَقَدْ رَأَيْتنَا وَمَا أَحَدُنَا أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ‏.‏

ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ هَيْهَاتَ ‏,‏ رَحَلَ الْإِخْوَانُ ‏,‏ وَأَقَامَ الْخُوَّانُ ‏,‏ وَقَلَّ مَنْ تَرَى فِي الزَّمَانِ ‏,‏ إلَّا مَنْ إذَا دُعِيَ مَانَ ‏,‏ كَانَ الْأَخُ فِي اللَّهِ يَخْلُفُ أَخَاهُ فِي أَهْلِهِ إذَا مَاتَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ‏.‏

وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا أَرَادَ شَيْنَ أَخِيهِ طَلَبَ حَاجَتَهُ إلَى غَيْرِهِ ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ نُسِخَ فِي هَذَا الزَّمَانِ رَسْمُ الْأُخُوَّةِ وَحُكْمُهُ ‏,‏ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْحَدِيثُ عَنْ الْقُدَمَاءِ ‏,‏ فَإِنْ سَمِعْت بِإِخْوَانِ صِدْقٍ فَلَا تُصَدِّقْ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَقَالَ وَهْبُ بْنُ الْوَرْدِ‏:‏ صَحِبْت النَّاسَ خَمْسِينَ سَنَةً فَمَا وَجَدَتْ رَجُلًا غَفَرَ لِي زَلَّةً ‏,‏ وَلَا أَقَالَنِي عَثْرَةً ‏,‏ وَلَا سَتَرَ لِي عَوْرَةً ‏.‏

وَقَدْ قَالَ سَيِّدُنَا غِذَاء رضي الله عنه‏:‏ إذَا كَانَ الْعُذْرُ طِبَاعًا فَالثِّقَةُ بِكُلِّ أَحَدٍ عَجْزٌ ‏.‏

وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ‏:‏ مَا الصَّدِيقُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ اسْمٌ وُضِعَ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّى ‏.‏

وَحَيَوَانٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ ‏.‏

قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏ سَمِعْنَا بِالصَّدِيقِ وَلَا نَرَاهُ عَلَى التَّحْقِيقِ يُوجَدُ فِي الْأَنَامِ وَأَحْسَبُهُ مُحَالًا نَمَّقُوهُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ مِنْ الْكَلَامِ وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ لِبَعْضِ إخْوَانِهِ‏:‏ أَقْلِلْ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ ‏,‏ وَأَنْكِرْ مَنْ عَرَفَتْ مِنْهُمْ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ لَك مِائَةُ صَدِيقٍ فَاطْرَحْ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَكُنْ مِنْ الْوَاحِدِ عَلَى حَذَرٍ ‏.‏

وَقَالَ غِذَاء‏:‏ إيَّاكَ تَغْتَرُّ أَوْ تَخْدَعُك بَارِقَةٌ مِنْ ذِي خِدَاعٍ يَرَى بِشْرًا وألطافا فَلَوْ قَلَّبْت جَمِيعَ الْأَرْضِ قَاطِبَةً وَسِرْت فِي الْأَرْضِ أَوْسَاطًا وأطرافا لَمْ تَلْقَ فِيهَا صَدِيقًا صَادِقًا أَبَدًا وَلَا أَخًا يَبْذُلُ الْإِنْصَافَ إنْ صَافَى وَقَالَ آخَرُ‏:‏ خَلِيلِي جَرَّبْت الزَّمَانَ وَأَهْلَهُ فَمَا نَالَنِي مِنْهُمْ سِوَى الْهَمِّ وَالْعَنَا وَعَاشَرْت أَبْنَاءَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَجِدْ خَلِيلًا وَفِيًّا بِالْعُهُودِ وَلَا أَنَا وَقَالَ آخَرُ‏:‏ لَمَّا رَأَيْت بَنِي الزَّمَانِ وَمَا بِهِمْ خِلٌّ وَفِيٌّ لِلشَّدَائِدِ أَصْطَفِي فَعَلِمْت أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ ثَلَاثَةٌ الْغَوْلُ وَالْعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الْوَفِيّ قُلْت‏:‏ فَإِذَا كَانَ هَذَا كَلَامُ مَنْ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي أَوْسَاطِهِ ‏,‏ وَقَدْ مَضَى بَعْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ ‏,‏ وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ رَسْمَ الْأُخُوَّةِ قَدْ نُسِخَ ‏,‏ وَعَقْدَ الصَّدَاقَةِ قَدْ فُسِخَ ‏.‏

فَمَا بَالُك بِزَمَانٍ وَفَاؤُهُ غَدْرٌ ‏.‏

وَخَيْرُهُ شَرٌّ ‏.‏

وَنَفْعُهُ ضُرٌّ ‏.‏

وَصِدْقُهُ كَذِبٌ ‏,‏ وَحَسَنَتُهُ ذَنْبٌ ‏.‏

وَصَدِيقُهُ خَائِنٌ ‏.‏

وَصَادِقُهُ مَائِنٌ ‏.‏

وَخَلِيلُهُ غَادِرٌ ‏.‏

وَنَاسِكُهُ فَاجِرٌ ‏.‏

وَعَالِمُهُ جَاهِلٌ ‏.‏

وَعَاذِرُهُ عَاذِلٌ ‏.‏

وَقَدْ صَارَتْ صَلَاةُ أَهْلِ زَمَانِنَا عَادَةً لَا عِبَادَةً ‏,‏ وَزَكَاتُهُمْ مَغْرَمًا يَغْرَمُونَهَا لَا يَرْجُونَ مِنْ عَوْدِهَا إفَادَةً ‏,‏ وَصِيَامُهُمْ كَجُوعِ الْبَهَائِمِ ‏.‏

وَذِكْرُهُمْ كَرُغَاءِ الْبَعِيرِ الْهَائِمِ ‏.‏

فَأَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةُ مِنْ حَالَةِ مَنْ يَتَضَجَّرُ لِعَدَمِ وَفَاءِ إخْوَانِهِ ‏,‏ وَأَقْرَانِهِ وَأَخْدَانِهِ‏؟‏ ‏!‏ ‏.‏

 مطلب قِصَّةُ غِذَاء مَعَ السَّفَّاحِ

وَقَدْ قِيلَ إنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ السَّفَّاحَ كَانَ يُحَدِّثُ أَبَا بَكْرٍ الهذلي يَوْمًا إذْ عَصَفَتْ الرِّيحُ فَأَرْمَتْ طَسْتًا مِنْ سَطْحٍ إلَى الْمَجْلِسِ ‏,‏ فَارْتَاعَ مَنْ حَضَرَ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ غِذَاء وَلَمْ تَزَلْ عَيْنُهُ مُطَابِقَةً لَعَيْنِ السَّفَّاحِ ‏,‏ فَقَالَ مَا أَعْجَبَ شَأْنَك يَا هذلي ‏.‏

فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ‏}‏ وَأَنَا لِي قَلْبٌ وَاحِدٌ ‏;‏ فَلَمَّا غَمَرَ بِمُحَادَثَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ لِمُحَادَثَةِ غَيْرِهِ مَجَالٌ فَلَوْ انْقَلَبَتْ الْخَضْرَاءُ عَلَى الْغَبْرَاءِ مَا حَسَسْت بِهَا وَلَا وَجَّهْت لَهَا قَلْبِي ‏.‏

فَقَالَ السَّفَّاحُ لَئِنْ بَقِيت لأرفعن مَكَانَك ‏.‏

ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ وَصِلَةٍ كَبِيرَةٍ فَانْظُرْ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَاعْتَبِرْ اسْتِغْرَاقَ قَلْبِ هَذَا الرَّجُلِ وَانْغِمَارِهِ بِمُحَادَثَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ وَزِنْ حَالَهُ بِحَالِ وُقُوفِك فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ ‏,‏ وَقَدْ نَصَبَ لَك وَجْهَهُ الْكَرِيمَ ‏,‏ وَرَفَعَ مِنْ بَيْنِك وَبَيْنَهُ الْحُجُبَ ‏.‏

فَهَلْ تَجِدُ قَلْبَك مُنْغَمِرًا وَمُسْتَغْرِقًا فِي جَمَالِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ كَاسْتِغْرَاقِ قَلْبِ غِذَاء فِي مُحَادَثَةِ السَّفَّاحِ ‏.‏

فَيَا وَيْلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ خَالِقَهُ وَلِمَ خَلَقَهُ‏؟‏ وَلَمْ يَقُمْ بِمَا أَمَرَ إنْ لَمْ يَعْفُ وَيَغْفِرْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

‏.‏

‏(‏الثَّانِيَةُ‏)‏ جُمْلَةُ الَّذِينَ نَهَى النَّاظِمُ عَنْ صُحْبَتِهِمْ ثَلَاثَةٌ‏:‏ الْهَمَّازُ ‏,‏ وَالْبَذِيُّ ‏,‏ وَالْأَحْمَقُ ‏.‏

وَتَقَدَّمَ فِي أَثَرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ نَهَى عَنْ صُحْبَةِ الْفَاجِرِ أَيْضًا وَالْكَذَّابِ ‏.‏

وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تُصَاحِبَ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ وَقَاطِعَ الرَّحِمِ ‏.‏

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه‏:‏ لَا تَوَدَّنَّ عَاقًّا كَيْفَ يَوَدُّك وَقَدْ عَقَّ أَبَاهُ ‏.‏

وَكَذَا قَاطِعُ الرَّحِمِ ‏.‏

وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ‏:‏ مَنْ ذَا الَّذِي تَرْتَجِي الْأَقَاصِي إنْ لَمْ تَنَلْ خَيْرَهُ الأداني وَلَكِنَّ النَّاظِمَ لَمْ يَسْبُرْ مَنْ لَا تَنْبَغِي صُحْبَتُهُمْ ‏.‏

وَلَمْ يَسْتَقْصِ عَدَّهُمْ ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُصَاحِبَ شِرِّيرًا مُطْلَقًا ‏.‏

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ‏:‏ يَنْبَغِي فِيمَنْ تُؤْثَرُ صُحْبَتُهُ خَمْسُ خِصَالٍ‏:‏ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ‏.‏

حَسَنَ الْخُلُقِ ‏,‏ غَيْرَ فَاسِقٍ ‏,‏ وَلَا مُبْتَدِعٍ ‏,‏ وَلَا حَرِيصٍ عَلَى الدُّنْيَا ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

‏.‏

وَضَابِطُ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَمْ تَسْتَفِدْ مِنْ صُحْبَتِهِ شَيْئًا فَتَرْكُهُ أَوْلَى ‏;‏ وَكُلُّ مَنْ تَضُرُّك صُحْبَتُهُ فِي دِينِك فَتَرْكُهُ وَاجِبٌ ‏.‏

وَكَذَا فِي دُنْيَاك ضَرَرًا لَهُ قِيمَةٌ حَيْثُ كَانَ لَك مِنْهُ بُدٌّ ‏.‏

وَدَفْعُ الْمَضَارِّ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ ‏.‏

وَيُدْفَعُ أَشَدُّ الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفَّيْهِمَا ‏.‏

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

‏.‏

‏(‏الثَّالِثَةُ‏)‏ الْحَمَاقَةُ ‏.‏

مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَمِقَتْ السُّوقُ إذَا كَسَدَتْ ‏;‏ فَكَأَنَّهُ كَاسِدُ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فَلَا يُشَاوَرُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ‏.‏

قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ‏:‏ الْحُمْقُ غَرِيزَةٌ لَا تَنْفَعُ فِيهِ حِيلَةٌ وَهُوَ دَاءٌ دَوَاؤُهُ الْمَوْتُ ‏.‏

كَمَا قِيلَ‏:‏ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يستطب بِهِ إلَّا الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا وَلِبَعْضِهِمْ‏:‏ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يستطب بِهِ إلَّا الْحَمَاقَةَ وَالطَّاعُونَ وَالْهَرَمَ وَيُرْوَى أَنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى عليه السلام قَالَ‏:‏ عَالَجْت الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ فأبرأتهما ‏.‏

وَعَالَجْت الْأَحْمَقَ فَأَعْيَانِي ‏.‏

وَمِنْ كَلَامِهِمْ‏:‏ فُلَانٌ ذُو حُمْقٍ وَافِرٍ ‏.‏

وَعَقْلٍ نَافِرٍ ‏.‏

لَيْسَ مَعَهُ إلَّا مَا يُوجِبُ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ ‏.‏

 مطلب قِصَّةُ الْعَابِدِ الْأَحْمَقِ

وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا عَابِدًا كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ ‏.‏

فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ وَأَعْشَبَتْ الْأَرْضُ ‏.‏

فَرَأَى حِمَارَهُ يَرْعَى فِي ذَلِكَ الْعُشْبِ ‏.‏

فَقَالَ‏:‏ يَا رَبُّ لَوْ كَانَ لَك حِمَارٌ لَرَعَيْته مَعَ حِمَارِي ‏.‏

فَبَلَغَ ذَلِكَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ فَهَمَّ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِ ‏.‏

فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ لَا تَدْعُ فَإِنِّي أُجَازِي الْعِبَادَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ ‏.‏

‏.‏ قُلْت وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ بَشِيرٍ ‏.‏

‏.‏ وَفِي شُعَبِ غِذَاء ‏,‏ عَنْ الْأَعْمَشِ ‏,‏ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ غِذَاء ‏,‏ عَنْ عَطَاءٍ ‏,‏ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تَعَبَّدَ رَجُلٌ فِي صَوْمَعَةٍ ‏,‏ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ ‏,‏ وَأَعْشَبَتْ الْأَرْضُ ‏,‏ فَرَأَى حِمَارًا يَرْعَى ‏,‏ فَقَالَ‏:‏ يَا رَبُّ ‏;‏ لَوْ كَانَ لَك حِمَارٌ رَعَيْته مَعَ حِمَارِي ‏"‏ إلَى آخِرِهِ ‏.‏

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب خَيْرُ الْخِصَالِ ذِكْرُ اللَّهِ فِي الْمَسَاجِدِ

وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْت فِيهِ وَخَصْلَةٍ تَحَلَّيْتهَا ذِكْرُ الْإِلَهِ بِمَسْجِدِ ‏(‏وَخَيْرُ مَقَامٍ‏)‏ مِنْ مَقَامَاتِ الدُّنْيَا ‏(‏قُمْت فِيهِ‏)‏ مِنْ سَائِرِ الْأَرْضِ ‏(‏وَ‏)‏ خَيْرُ ‏(‏خَصْلَةٍ‏)‏ قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ الْخَصْلَةُ الْخُلَّةُ وَالْفَضِيلَةُ وَالرَّذِيلَةُ وَقَدْ غَلَبَتْ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَجَمْعُهَا خِصَالٌ ‏(‏تَحَلَّيْتهَا‏)‏ أَيْ اتَّخَذْتهَا حُلِيًّا وَالْحُلِيُّ مَا يُزَيَّنُ بِهِ مِنْ مَصُوغِ المعدنيات أَوْ الْحِجَارَةِ وَجَمْعُهُ حُلِيٌّ كَدُلِيٍّ ‏,‏ أَوْ هُوَ جَمْعٌ وَالْوَاحِدُ حِلْيَةٌ كَظَبْيَةٍ ‏,‏ وَالْحِلْيَةُ بِالْكَسْرِ الْحُلِيُّ ‏,‏ وَحُلِّيَتْ الْمَرْأَةُ كرضيت حُلِيًّا فَهِيَ حَالٌّ وَحَالِيَّةٌ اسْتَفَادَتْ حُلِيًّا أَوْ لَبِسَتْهُ كتحلت أَوْ صَارَتْ ذَاتَ حُلِيٍّ ‏,‏ وَحَلَاهَا تَحْلِيَةً أَلْبَسَهَا حُلِيًّا أَوْ اتَّخَذَهُ لَهَا أَوْ وَصَفَهَا وَنَعَتَهَا ‏.‏

قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ ‏.‏

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ‏:‏ الْحُلِيُّ حُلِيُّ الْمَرْأَةِ وَجَمْعُهُ حُلِيٌّ مِثْلُ ثَدْيٍ وَثُدِيٌّ وَقَدْ تُكْسَرُ الْحَاءُ لِمَكَانِ الْيَاءِ مِثْلُ عِصِيٍّ ‏,‏ وَقَدْ قُرِئَ ‏(‏مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا‏)‏ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

يَعْنِي أَنَّ خَيْرَ خَصْلَةٍ تَزَيَّنَ الْعَبْدُ بِهَا ‏(‏ذِكْرُ الْإِلَهِ‏)‏ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏,‏ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ ‏(‏بِمَسْجِدٍ‏)‏ مُرَادُ النَّاظِمِ أَنَّ خَيْرَ مَقَامٍ قُمْت فِيهِ قِيَامُك ‏,‏ بِمَسْجِدٍ ‏,‏ وَخَيْرَ خَصْلَةٍ تَحَلَّيْت بِهَا ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَضْلِ الْمَسَاجِدِ وَآدَابِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ‏.‏

وَأَمَّا الذِّكْرُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى ‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏}‏

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام‏:‏ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى ‏"‏ مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي ‏,‏ وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ عليه الصلاة والسلام ‏"‏ وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ ‏,‏ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الذِّكْرِ إلَّا هَذِهِ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ لَكَانَ حَقِيقًا بِالْعَبْدِ أَنْ لَا يَفْتُرَ لِسَانُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ‏,‏ فَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الذِّكْرَ سَبَبٌ لِذِكْرِ مَوْلَاهُ لَهُ ‏,‏ وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ بَلْ هِيَ أَعْظَمُهَا ‏.‏

 مطلب فَوَائِدُ الذِّكْرِ

وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ لِلذِّكْرِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ فَائِدَةٍ ‏,‏ مِنْهَا طَرْدُ الشَّيْطَانِ وَقَمْعُهُ ‏,‏ وَأَنَّهُ يُرْضِي الرَّحْمَنَ وَيُزِيلُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ عَنْ الْقَلْبِ ‏,‏ وَيَجْلِبُ لَهُ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ ‏,‏ وَيُقَوِّي الْبَدَنَ وَالْقَلْبَ ‏,‏ وَيَجْلِبُ الرِّزْقَ ‏,‏ وَيُكْسِي الذَّاكِرَ الْمَهَابَةَ وَالْحَلَاوَةَ والنضرة ‏,‏ وَيُورِثُهُ الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رُوحُ الْإِسْلَامِ وَقُطْبُ رَحَى الدِّينِ وَمَدَارُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ ‏,‏ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ‏,‏ وَجَعَلَ سَبَبَ الْمَحَبَّةِ دَوَامَ الذِّكْرِ ‏,‏ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَلْهَجْ بِذِكْرِهِ ‏,‏ فَإِنَّ الدَّرْسَ وَالْمُذَاكَرَةَ كَمَا أَنَّهُ بَابُ الْعِلْمِ ‏,‏ فَالذِّكْرُ بَابُ الْمَحَبَّةِ وَطَرِيقُهَا الْأَعْظَمُ ‏,‏ وَصِرَاطُهَا الْأَقْوَمُ ‏,‏ وَيُورِثُ الذِّكْرُ الذَّاكِرَ الْمُرَاقَبَةَ حَتَّى يُدْخِلَهُ فِي بَابِ الْإِحْسَانِ فَيَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ ‏,‏ وَيُورِثُهُ الْإِنَابَةَ وَهِيَ الرُّجُوعُ إلَى اللَّهِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ ‏,‏ وَيَفْتَحُ لَهُ بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْمَعْرِفَةِ ‏,‏ وَيُورِثُهُ الْهَيْبَةَ لِرَبِّهِ وَإِجْلَالَهُ لِشِدَّةِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ وَحُضُورِهِ مَعَ اللَّهِ بِخِلَافِ الْغَافِلِ ‏,‏ وَحَيَاةَ الْقَلْبِ ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ‏:‏ سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ غِذَاء قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ‏:‏ الذِّكْرُ لِلْقَلْبِ مِثْلُ الْمَاءِ لِلسَّمَكِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ السَّمَكِ إذَا فَارَقَ الْمَاءَ ‏.‏

‏.‏

وَيُورِثُ جَلَاءَ الْقَلْبِ مِنْ صَدَاهُ ‏,‏ فَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ صَدًى وَصَدَى الْقَلْبِ الْغَفْلَةُ وَالْهَوَى ‏,‏ وَجَلَاءُ الذِّكْرِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ‏,‏ وَيَحُطُّ الْخَطَايَا وَيُذْهِبُهَا ‏;‏ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ ‏,‏ وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏.‏

وَيُزِيلُ الْوَحْشَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ ‏,‏ وَهُوَ مَنْجَاةٌ لِلْعَبْدِ عَنْ عَذَابِ اللَّهِ ‏,‏ كَمَا قَالَ مُعَاذٌ رضي الله عنه وَيُرْوَى مَرْفُوعًا ‏"‏ مَا عَمَلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ‏"‏ وَهُوَ سَبَبٌ لِنُزُولِ السَّكِينَةِ عَلَى الْعَبْدِ ‏,‏ وَغَشَيَانِ الرَّحْمَةِ لَهُ ‏,‏ وَحُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ بِهِ وَهُوَ غِرَاسُ الْجَنَّةِ ‏.‏

فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لَقِيت إبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ لِي يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَك السَّلَامَ ‏,‏ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ ‏,‏ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ ‏,‏ وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ ‏,‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ‏,‏ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ‏"‏ ‏.‏

وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ ‏"‏ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ‏.‏

‏.‏